. المحور الثالث (فضائل سيدنا معاوية بن ابي سفيان (رضي الله عنه)):
معاوية بْن أَبِي سفيان هو معاوية بْن صخر بْن حرب بْن أمية بْن عبد شمس بْن عبد مناف القرشي الأموي، وأمه هند بنت عتبة بْن ربيعة بْن عبد شمس يجتمع أبوه وأمه فِي عبد شمس،
ويلتقي نسبُه مع النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) في عبدِ مَناف.
أسلم هُوَ وأبوه وأخوه يزيد وأمه هند فِي الفتح، وَكَانَ معاوية يقول: إنه أسلم عام القضية، وَإِنه لقي رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مسلما وكتم إسلامه من أبيه وأمه.
وقال قوّام السنة في سير السلف الصالحين (2/ 663) رواية عن معاوية (رضي الله عنه) أنه يقول فيها: أسلمت عام القضية، لقيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقبل إسلامي، وعام القضية هو العام الذي صُد النبي (صلى الله عليه وسلم) عن البيت (عام 6 هـ). وانظر هذا الخبر في تاريخ الطبري (5 / 328) والبداية والنهاية لابن كثير (8 / 21).
ومعاوية (رضي الله عنه) من الذين شهدوا غزوة حُنين المقصودة في الآيات، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينتَه عليهم مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد أنفق وقاتل في حُنين والطائف وتبوك مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ والمُهاجِرينَ والأنْصارِ الَّذينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلوبُ فَريقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِم، إنَّهُ بِهِم رَؤوفٌ رَحيمٌ) [التوبة: 117]، وساعةُ العُسرة هي غزوةُ تَبُوك، وقد شَهِدَها مُعاوية (رضي الله عنه).
وتوفي معاوية (رضي الله عنه) في النصف من رجب سنة ستين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل: ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ابن ست وثمانين سنة.
ولما مرض كَانَ ابنه يزيد غائبا، ولما حضره الموت أوصى أن يكفن فِي قميص كَانَ رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قد كساه إياه، وأن يجعل مما يلي جسده، وَكَانَ عنده قلامة أظفار رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فأوصى أن تسحق وتجعل فِي عينيه وفمه، وقال: افعلوا ذَلِكَ، وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين.
روى عَنْهُ جماعة من الصحابة: ابن عباس، والخدري، وَأَبُو الدرداء، وجرير، والنعمان بْن بشير، وابن عمر، وابن الزبير، وغيرهم.
ومن التابعين: أَبُو سلمة، وحميد ابنا عبد الرحمن، وعروة، وسالم، وعلقمة بْن وقاص، وابن سيرين، والقاسم بْن مُحَمَّد، وغيرهم.
روي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ما زلت أطمع فِي الخلافة مذ قَالَ لي رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (إن وليت فأحسن).
وقد جاءت في فضله أدلة من الكتاب والسنة وهي تنقسم إلى قسمين:
أ. أدلة عامة: وهي التي جاءت في فضائل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في الكتاب والسنة وقد سبق ان اشرنا الى جانب منها، ولا شك أن معاوية (رضي الله عنه) داخل في هذا الفضل.
قال ابن القيم رحمه الله في « المنار المنيف » (93): (فيما صح في مناقب الصحاب على العموم ومناقب قريش فمعاوية (رضي الله عنه) داخل فيه).
ب. أدلة خاصة: جاءت في فضل معاوية بخصوصه و تدل على فضله (رضي الله عنه) ومنها:
قال عمير بن سعد (رضي الله عنه): لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (اللهم أجعله هادياً مهدياً وأهد به)، رواه البخاري في (التاريخ الكبير 5/240)، وأحمد في (المسند 17929)، والترمذي (3842)، وهو صحيح.
وأخرج البخاري رحمه الله في صحيحه (2636)، ومسلم (5925) عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت: (نام النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً قريباً مني ثم أستيقظ يبتسم فقلت: ما أضحكك ؟ قال: (أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة)، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها ثم نام الثانية ففعل مثلها فقالت قولها، فأجابها مثلها، فقالت: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين)، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
وأخرج البخاري (2766) أيضاً من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا)، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال
أنت فيهم) ثم قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر – أي القسطنطينية – مغفور لهم)، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال: (لا)، وهذا الحديث فيه منقبة لمعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) وذلك لأن أول جيش غزى في البحر كان بإمرة معاوية.
قال ابن حجر في (الفتح 6/120): (قال المهلب في هذا الحديث: منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر)، وقال ابن حجر في (الفتح أيضاً 6/121): (ومعنى أوجبوا: أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة)، قال ابن عبد البر في « التمهيد » (1/235): (وفيه فضل لمعاوية رحمه الله إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وحي).
ومن مناقبه أنه أحد كتاب الوحي:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إن معاوية كان يكتبُ بين يَدَي رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، رواه أبو عوانة (البداية والنهاية 11/403) والبزار (زوائده 3/267 رقم 2722).
وعن سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّة الأنصاري رضي الله عنه: أن عُيَيْنَةَ والأَقْرَعَ سألا رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) شيئا، فأمرَ معاويةَ أن يكتُبَ به لهما، ففعلَ، وختَمَها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأَمَر بدفعه إليهما. والحديث، رواه أبوداود (1629) وأحمد (4/180) وابن شبّة في أخبار المدينة (911).
وأمرُ كتابةِ معاوية للوحْيِ؛ وائتمانِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) عليهِ مشهور، وفي السِّيَر والمغازي والتواريخ معروفٌ ومسطور.
وقال الإمام أحمد: معاوية (رضي الله عنه) كاتبه وصاحبه وصهره وأمينه على وحيه عز وجل.
ومن مناقبه أنه خال المؤمنين:
قال أبو يعلى في تنزيه خال المؤمنين (ص 106): (ويسمى إخوة أزواج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخوال المؤمنين، ولسنا نريد بذلك أنهم أخوال في الحقيقة، كأخوال الأمهات من النسب، وإنما نريد أنهم في حكم الأخوال في بعض الأحكام، وهو التعظيم لهم).
وقال الإمام أحمد في السنة (2/433): (أقول: معاوية خال المؤمنين، وابن عمر خال المؤمنين).
ومن مناقبه: أن عمر (رضي الله عنه) ولاه على الشام وأقره عثمان (رضي الله عنه) عليه أيضا مدة خلافته كلها وحسبك بمن يوليه عمر وعثمان رضي الله عنهما على الشام نحوا من عشرين سنة فيضبطه ولا يعرف عنه عجز ولا خيانة.
ومن فضائله تسليم الحسن بن علي (رضي الله عنه)الخلافة إليه:
أخرج ابن سعد من طريق خالد بن مُضرّب قال: سمعت الحسن بن علي(رضي الله عنه) يقول: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم، قالوا: ما هو ؟ قال: تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت. طبقات ابن سعد (1 / 286، 287).
وأخرج البخاري في صحيحه (5 / 361) من طريق أبي بكرة (رضي الله عنه) قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). فلقد وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) هاتين الطائفتين بأنهما من أهل الإسلام.
وأخرج الطبراني رواية عن الشعبي قال: شهدت الحسن بن علي (رضي الله عنه) بالنخيلة حين صالح معاوية (رضي الله عنه)، فقال معاوية: إذا كان ذا فقم فتكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي، فقام فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه - قال الشعبي: وأنا أسمع – ثم قال: أما بعد فإن أكيس الكيس – أي الأعقل – التقي، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم، أو يكون حقاً كان لأمرئ أحق به مني ففعلت ذلك (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) [الأنبياء/111]. المعجم الكبير (3 / 26) بإسناد حسن. وقد أخرج هذه الرواية كل من ابن سعد في الطبقات (1 / 329) والحاكم في المستدرك (3 / 175) وأبو نعيم في الحلية (2 / 37).
وبعد أن تم الصلح بينه وبين الحسن جاء معاوية إلى الكوفة فاستقبله الحسن والحسين رضي الله عنهما على رؤوس الناس، فدخل معاوية المسجد وبايعه الحسن رضي الله عنهما وأخذ الناس يبايعون معاوية فتمت له البيعة في خمس وعشرين من ربيع الأول من سنة واحد وأربعين من الهجرة، وسمي ذلك العام بعام الجماعة.
ومعاوية لم يطالب الحكم، فعن أبي مسلم الخولاني:" أنه دخل على معاوية فقال له: أنت تنازع علياً أأنت مثله ؟ فقال معاوية(رضي الله عنه): لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل وأحق ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ؟ وأنا ابن عمه وأنا أطلب بدمه فأتوا علياً فقولوا له فليدفع إليّ قتلة عثمان وأُسلِّم له الأمور، فَأَتوا عليا فكلموه فأبى عليهم ولم يدفع القتلة ". (وهذه الرواية إسنادها صحيح كما في تاريخ الإسلام للذهبي).
فهذا يؤكد على أن الخلاف بين علي ومعاوية هو مقتل عثمان (رضي الله عنه) وليس من أجل الخلافة، والقضية اجتهادية، فلم يقل معاوية إنه خليفة ولم ينازع عليا الخلافة أبداً.
وكان معاوية متأولاً وقد استند إلى النصوص الشرعية، والتي تظهر أن عثمان يقتل مظلوماً ويصف الخارجين عليه بالمنافقين، وهو ما رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (يا عثمان ! إن ولاك الله هذا الأمر يوما، فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه – قالها ثلاث مرات)، وكان معاوية يقول إن ابن عمي قتل ظلماً وأنا كفيله والله يقول (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً).
ومن مناقبه أنه من خير الملوك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في « الفتاوى » (4/478) بالإجماع وانظر « سير أعلام النبلاء » (3/159)، وقال ابن أبي العز الحنفي في « شرحه على الطحاوية » (2/302) « وأول ملوك المسلمين معاوية (رضي الله عنه) وهو خير ملوك المسلمين ». وانظر « البداية والنهاية » (8/93).
ومن فضائله: ما قاله الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: قلت لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي) ؟ قال: بلى، قلت: وهذه لمعاوية ؟ قال: نعم، له صهر ونسب.
وعن مجالد عن الشعبي عن الحارث قال: قال علي (رضي الله عنه): (لا تَكرهُوا إمارة معاوية، فو الله لئن فقدتموه لترون رؤوسًا تندرعن كواهلها كأنها الحنظل)، "تاريخ دمشق" (59/152)، وأورده أبو نعيم في "معرفة الصحابة".
فهذا أمرٌ من علي (رضي الله عنه) لأصحابه بعدم كراهيتهم لإمارة معاوية.
ج. ثناء السلف على معاوية رضي الله عنه
قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): لا تذكروا معاوية إلا بخير، (البداية والنهاية لابن كثير 8/125).
وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) شاهدا بدهاء وفطنة معاوية: (تَذكرونَ كِسْرَى وقَيْصَرَ ودَهاءَهُما، وعندَكم معاوية)- رواه الترمذي بسندٍ صحيح
وفي (صحيح البخاري 3765) قيل لابن عباس(رضي الله عنه): هل لك في أمير معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه.
روى ابن عساكر في « تاريخ دمشق » (59/211) وبنحوه الآجري في « كتاب الشريعة » (5/2466) عن عبدالله بن المبارك أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبدالعزيز ؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفضل من عمر بألف مرة صلى معاوية خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد فما بعد هذا ؟.
فوصل الخبر الى سيدنا عمر بن عبد العزيز فقال: والله لغبار دخل في انف فرس معاوية في معركة مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خير من عمر بن عبد العزيز و آله.
وقال بشر الحافي سئل المعافي وأنا اسمع أو سألته: معاوية أفضل أو عمر بن عبدالعزيز ؟ فقال كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبدالعزيز ولذا قال الإمام احمد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يدانيهم احد، أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يقاربهم احد.
وقال الإمام المازري: ومعاوية من عدول الصحابة وأفاضلهم وما وقع من الحروب بينه وبين علي رضي الله عنهما وماجري بين الصحابة رضي الله عنهم من الدماء فعلى التأويل والاجتهاد وكل يعتقد أن فعله صواب وسداد.
و أخرج الإمام أحمد، عن العرباض بن سارية (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان، قال: (هلموا إلى الغداء المبارك)، ثم سمعته يقول: (اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب). رواه أحمد (4/127)، وابن خزيمة (1838)، وابن حبان (7210).
وقال سعيدُ بنُ المسيب: (من مات محبًّا لأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وشهد للعشرة بالجنة، وترحَّم على معاوية، كان حقيقًا على الله ألاَّ يناقشه الحساب).